التراث الثقافي في فلسطين

تجاوز الدور التاريخي والحضاري لفلسطين حجمها الصغير، وذلك لأبعاد جيوسياسية وأخرى حضارية دينية. هذه المكانة جعلت من فلسطين مكاناً مميزاً، جمعت فيه حضارات بأبعاد عالمية. كما جرت على أرض فلسطين عمليات تزاوج حضاري بين ما هو آتٍ من شبه الجزيرة العربية وذلك القادم من بلاد النهرين، أو عبر المتوسط أو شمال بلاد الشام. وانعكس هذا كله بإنتاج حضاري غني ومتنوع، يشكل بمجمله إسهاماً في الحضارة العالمية. وبسبب الموقع الجغرافي الرابط بين آسيا وأفريقيا، تحولت فلسطين إلى طريق تجاري مهم، فالقوافل التجارية القادمة عبر التاريخ من جزيرة العرب حاملة البضائع المختلفة من الهند وأفريقية والخليج العربي باتجاه الشمال كانت تحط رحالها على أرض فلسطين بعد رحلة شاقة، لتنتقل بعدها إلى ميناء غزة الذي كان يحمل البضائع إلى السواحل الشرقية والغربية للبحر الأبيض المتوسط، أو تستمر القوافل براً باتجاه الشمال عبر طريق السهل الساحلي الفلسطيني، أو عبر طريق قمم الجبال، أو عن طريق الأغوار. لذلك، أنشئ الكثير من المستقرات البشرية والمنشآت المعمارية، وبخاصة الخانات والقلاع وأسبلة المياه، على امتداد الطرق التجارية وطرق المواصلات.

وأضفت المكانة الدينية لفلسطين، ما قبل الديانات السماوية وما بعدها، على مشهدها قدسية خاصة، فانتشرت الأماكن المقدسة في طول البلاد وعرضها، منذ قرر الإنسان عبادة ظاهرة طبيعية أو إنسان، وانتهاء بالتوحيد عبر الديانات السماوية. وحافظت الكثير من أماكن العبادة في فلسطين على قدسيتها مدة تزيد على خمسة آلاف عام، وما زالت تحمل قدسيتها حتى اليوم. فغالبية المقامات والأضرحة المقدسة وأشجار البلوط والبطم والمغائر وينابيع المياه تروي قصصاً قدسية.

وتراكمت على أرض فلسطين الطبقات التاريخية فوق بعضها البعض مشكلة التلال والخرب الأثرية، ويحتوي بعضها على أكثر من عشرين طبقة حضارية، وتملك الأراضي المحتلة العام 1967 وحدها، بموجب المسوحات، ما يزيد على 10,000 موقع ومعلم أثري، تمثل مختلف الفترات الرئيسة والفرعية للتاريخ الحضاري لفلسطين. كما يحمل الكثير من المواقع التأثيرات الحضارية للمناطق المحيطة بنا، أو الحضارات التي قامت بغزو فلسطين، عدا عن تلك التي نشأت على أرضها: كنعانية، ومصرية، وآشورية، وبابلية، وفينيقية، وفلسطينية، ويونانية، ورومانية، وبيزنطية، وعربية، وإفرنجية، وعثمانية ... الخ. إن هذا التنوع والتعدد في الوجوه الحضارية لفلسطين قد جعل منها خزاناً حضارياً لا يضاهى.

ونتج التنوع الحضاري في فلسطين أيضاً بسبب التنوع الجغرافي المجتمع في بقعة جغرافية ضيقة، منتجاً ثقافة السهل الساحلي وثقافة الجبل وثقافة الغور وثقافة الصحراء. وعلى الرغم من مرور غالبية المناطق الفلسطينية بالفترات التاريخية نفسها، فإن كل منطقة من المناطق المذكورة قد تميزت عن مجاوراتها بسبب الظروف البيئية، وتنوع المادة الحضارية، وشكل تفاعل الإنسان مع البيئة المحيطة به.

تعتبر فلسطين غنية جداً بمواقع ومناطق التراث الثقافي والطبيعي. فبالإضافة إلى مواقعها ومعالمها الدينية التاريخية العديدة، مثل المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيسة القيامة، وكنيسة المهد، والحرم الإبراهيمي، تحتوي أيضاً على الكثير من المواقع: كالمدرجات الرومانية، والكنائس البيزنطية المنتشرة في كل أنحاء فلسطين، والقصور الأموية (كقصر هشام، ودار الإمارة في القدس ... الخ)، والمدارس، والزوايا الأيوبية والمملوكية، بالإضافة إلى التراث الضخم الذي يعود إلى الفترة العثمانية.

كما تحتوي فلسطين على عدد كبير من مراكز المدن التاريخية، مثل البلدة القديمة في القدس، والخليل، ونابلس، وبيت لحم، وغزة. إضافة إلى ذلك، فإن القرى الفلسطينية بعمائرها الريفية الجميلة، تضيف إضافة نوعية إلى تنوع هذا التراث وثرائه. وتبين الأديرة الصحراوية التي تقع على المنحدرات الشرقية نوعاً آخر من المعمار في فلسطين، إضافة إلى المقامات المقدسة المنتشرة في الأرياف، كما يظهر التنوع في معمار "قرى الكراسي"، الذي يشير إلى القصور الإقطاعية في الريف الفلسطيني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كذلك تظهر الخانات المنتشرة على طول طرق التجارة التاريخية، وبيوت المزارع (المناطير) الجميلة المبنية من الحجر غير المهذب على تلال فلسطين المسلسلة بصورة تقليدية، تبين تنوع التراث الثقافي الفلسطيني وثرائه.

ويمكن تتبع هذا التنوع عبر العمارة التي استخدمت، على الأغلب، مواد البناء المتوفرة في المنطقة ذاتها، وتلك التي تتناسب والظروف البيئية المسيطرة. فبعضها اعتمد على الحجر بأنواعه، وبعضها الآخر على الطين (اللبن). وفي بعض العمائر العامة استورد الرخام والجرانيت من مناطق بعيدة.

والعمارة التاريخية (ومنها التقليدية) في فلسطين هي نتاج خبرة طويلة للبناء، وسواء طورت المهارات المتعلقة بها محلياً نتيجة الخبرة المتراكمة، أم تم استيرادها في فترات معينة، ودمجها ضمن الخبرة المحلية، فإنها تبقى شاهداً على التطور الحضاري الذي عاشته أرض فلسطين. إن ممتلكاتنا المعمارية التقليدية الموزعة على المدن التاريخية والقرى ما زالت، على الرغم من كل شئ، ثروة قومية من الطراز الأول. فبعض مدننا التاريخية، تحتوي على سجل شعب بأكمله، وتعتبر من النماذج القليلة التي بقيت من المدن الشرقية القديمة التي لم تتعرض إلى الدمار الشامل بعد (مدن القدس، ونابلس، والخليل)، كما أن هناك الكثير من القرى التي ما زالت تحتفظ بنسيجها المعماري إلى حد كبير. كل هذا يزيد من البعد الثقافي لفلسطين.

ومن الجدير ذكره أن فلسطين قد انتكبت بأهلها وأرضها وثقافتها وتاريخها وبمشهدها الحضاري وبيئتها الثقافية العام 1948. وفي الحقيقة، فإن النكبة ببعدها الإنساني والاجتماعي والسياسي قد لاقت اهتماماً واسعاً نسبياً، لكنها ببعدها الحضاري لم تحظَ إلا باليسير من الاهتمام[1] . على أي حال، خلال السنوات الأولى للاحتلال الإسرائيلي العام 1948، استطاعت جرافاته طمس آثار ما يزيد على 400 قرية وبلدة ومدينة فلسطينية، ماحية بذلك المراكز التاريخية لها وما احتوته من مساجد، وكنائس، ومقامات، ومن تراث ثقافي، ولم تسلم المقابر في كثير من الأحيان من أنياب الجرافات. ولا يمكننا، في حال من الأحوال، تقدير قيمة التراث الثقافي المفقود لانعدام التوثيق في حينه من جهة، ولأن التراث الثقافي لا يمكن تقييمه أصلاً لارتباطه بالذاكرة الجمعية والفردية للإنسان من جهة أخرى، وأصبحت مهمة إعادة تركيب البلدات القديمة على الورق مهمة عسيرة تحتاج إلى شحذ الذاكرة لمن تبقى على قيد الحياة من سكانها الذين تشتتوا في بقاع الأرض. وبالتالي، كانت الخسارة بكل المعايير فاجعة حضارية، وبخاصة أنه لا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء في مثل هذه الحالة. ويمكن أن نقدر أن ما دمر من عمائر فيها تجاوز 70,000 بناية تاريخية ذهبت وإلى الأبد.

بقيت بعض المدن والقرى الفلسطينية داخل الأرض المحتلة العام 1948 دون أن تطالها معاول الاحتلال بشكل كلي، لكن بقي أغلبها بدون توثيق (حيفا،وشفاعمرو، والرملة، ويافا، والناصرة، وعكا، وطبريا، وعرابة البطوف، وسخنين ... الخ)، وتنتظر جهداً فلسطينياً (سواء من أهلنا بالداخل أم بالتعاون معنا) لإتمام هذه المهمة التي توثق جزءاً من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني. ومن الجدير ذكره أن ما تبقى من تراث ثقافي داخل الأرض المحتلة العام 1948، يتعرض إلى عوامل الدهر والهجران، فغالبية البيوت الفلسطينية في يافا التي شُرد أهلها ما زالت خاوية مهجورة آيلة للسقوط، وكأن ما لم تصل إليهالجرافات، ترك لينهار وحده لإكمال عملية الطمس الشامل، والحال نفسه في طبرية وحيفا ... الخ. أما في صفد وجزء من يافا القديمة، فقد أسيء، بقصد أو بغير قصد، ترميم مبانيها في أغلب الأحيان، كما لم تسلم من إساءة في الاستعمال في أحيان أخرى. وفي عكا، تجري عملية تهجير لمن تبقى من سكانها العرب لإحلال آخرين محلهم، في محاولة لخلق تاريخ لمن ليس لهم علاقة بالمكان، وطمس علاقة المكان بسكانه. وفي باقي المواقع، التي ما زالت مأهولة بالسكان الفلسطينيين ما عدا ناصرة الجليل، فلا الإمكانيات الفنية والمادية، ولا الوعي بأهمية التراث الثقافي كافية لحماية ما تبقى.

وإن كانت الأسباب مختلفة، فالوضع في الأراضي المحتلة العام 1967 ليس بفارق بشكل ملحوظ، لأن النتيجة تكاد تكون واحدة. وإنه لمن المؤسف أن معظم الدمار الحاصل للتراث الثقافي والمعماري في الأراضي المحتلة العام 1967 ناتج عن التوسع الحضري العشوائي الذي شهدته الأراضي الفلسطينية في الفترة ما بين 1995-2000، والذي أدى إلى الوصول إلى معدل غير مسبوق من البناء، حيث أن حوالي 50% من البنايات في بعض المدن والقرى الفلسطينية تم بناؤها في تلك الفترة. إن التطور غير المخطط والعشوائي الذي شهدته مدننا وقرانا، والذي يتميز بعدم وجود رؤية مستقبلية تهدف إلى تغليب المصلحة العامة على الخاصة (التي تهدف غالباً إلى الربح السريع)، أدى إلى دمار الكثير من ممتلكاتنا الثقافية والطبيعية. إن غالبية هذا الدمار لا يمكن إصلاحه. فنتيجة شح الأراضي الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية (فقط المنطقتان أ، وب)، وازدياد عدد السكان، ودخول قدر كبير من رأس المال الخاص، وقلة الوعي العام بأهمية التراث الثقافي، تم هدم الكثير من البنايات والمواقع والمعالم التاريخية. لقد كان الولع ببناء البنايات الخرسانية الحديثة العالية توجهاً جارفاً لا يمكن التغلب عليه.

وبدون مبالغة، فإننا نفقد كل عام جزءاً كبيراً من الخمسين ألف مبنى المنتشرة في الأراضي الفلسطينية، وتتراوح الخسارة السنوية ما بين عدة عشرات من المباني وعدة مئات. كما تتراوح الخسارة بين تجريف بلدة قديمة بشكل كامل، أو تجريف مبنى أو عدة مبانٍ في الموقع نفسه، والأمثلة على ذلك كثيرة. ولاندري إن استمر الوضع على هذه الوتيرة كم سيتبقى لنا من تراثنا المعماري الغني.

كما أن النظام القانوني القائم لا يشمل جميع فئات التراث الثقافي؛ مثل المعالم والمناطق التاريخية، وبذلك ظلت مكونات عدة للتراث الثقافي خارج مجال الحماية. إن القانون الرئيسي الذي يعنى بحماية التراث هو قانون الآثار القديمة (قانون الآثار القديمة للعام 1929، والمطبق في قطاع غزة وقانون الآثار القديمة للعام 1966، والمطبق في الضفة الغربية)، والذي يغطي فقط حماية المواقع الأثرية، وبخاصة التراث الذي يعود إلى ما قبل العام 1700 ميلادية، أو العام 600 ميلادية بالنسبة لبقايا الإنسان والحيوان، وهو قانون قاصر عن حماية باقي مكونات التراث الثقافي، وبحاجة ماسة إلى تغييره وطرح قانون معاصر يلبي حاجات مجتمعنا في حماية تراثه الثقافي.

ويعتبر الاستثمار بالتراث الثقافي أحد أهم حقول الاستثمار في الاقتصاديات المعاصرة. لقد تنبهت الكثير من دول العالم المعاصر إلى أهمية هذا القطاع، ليس لكونه يعكس الهوية الوطنية، أو لكونه شاهداً على الحقب التاريخية والحضارية التي مر بها الوطن فحسب، بل باعتباره كنزاً وطنياً يمكن استخدامه كعجلة للتنمية، وبخاصة في البلدان التي تمتلك رصيداً حضارياً. كما أنها لم تكتفِ بالنظر إليه باعتباره نتاجاً حضارياً ذا قيمة معنوية وجمالية.

وفي فلسطين حيث المصادر الطبيعية محدودة جداً، وحيث إمكانيات تطوير الاقتصاد الوطني تصطدم بالكثير من المعوقات والتشويهات نتيجة الظروف غير الطبيعية التي مرت بها فلسطين، تتجه الأنظار، وبحق، نحو التراث الثقافي بكل مكوناته (العمارة التاريخية، والآثار، والمنقولات الأثرية، والتراث الشعبي الفلكلوري، والإنتاج الفني والحرفي ... الخ) إلى الاستثمار في الإمكانيات الكامنة فيه. والبعض يطلق على التراث الثقافي في فلسطين "النفط الأبيض" لما يحمل في طياته من أبعاد غير محدودة تؤهله لأن يكون رافعة اقتصادية من الطراز الأول وعجلة تنمية اجتماعية لا يمكن الوصول إلى بديل عنها.

يلعب القطاع السياحي بالتحديد دوراً مركزياً في الاقتصاد الوطني الفلسطيني، إذ يشكل القطاع السياحي إحدى أهم الموارد للدخل القومي الفلسطيني. وتشكلالأماكن الدينية والمواقع الأثرية ومراكز المدن التاريخية في القدس، وبيت لحم، والخليل، مراكز جذب للسياحة الدينية والسياحة بشكل عام.

ولا شك أن حماية وتنمية الموارد الثقافية والطبيعية، وتوسيع وتنوع مناطق الجذب السياحي لتشمل مراكز مدن أخرى كنابلس، وغزة، وجنين، ومراكز قرى كراسي (ككور، وعرابة، ودير استيا)، ومناطق طبيعية كبرك سليمان، وغور الأردن، وغابات منطقة جنين (كأم الريحان)، سينتج عنه تنمية اقتصادية واجتماعية.

كما يوفر القطاع السياحي وأعمال الحماية والترميم والصيانة فرص عمل لأعداد لا يستهان بها من العمال، إذ أنها ذات طبيعة عمالة مكثفة، وإذا أخذنا تجربة الترميم في مركز رواق فقط، فقد استطعنا أن نوفر ما يقارب 30000 يوم عمل خلال العام 2005 في عشرة مشاريع فقط.

وأخيراً، لا بد، أيضاً، من ربط التطور السياحي ليس فقط بحماية التراث الثقافي والطبيعي، وإنما بتطوير الحياة الاجتماعية والثقافية بشكل عام، حيث يمكن للتراث أن يلعب دوراً رئيساً في حل إشكالات الإسكان، وبخاصة لذوي الدخل المحدود في مراكز المدن والقرى، إذ يوجد كم هائل من المباني التاريخية المهجورة، يمكن إعادة استخدام الكم الأكبر منها بهدف الإسكان، أو وظائف أخرى كالمدارس، والمراكز الثقافية، والمراكز النسوية، أو الشبابية، وكمقرات للبلديات أو المجالس القروية.

 

[1]   صحيح أنه قد جرى توثيق القرى المدمرة، في الكتاب المهم " كي لا ننسى" الذي قامت به مجموعة من الباحثين وحرره الأستاذ وليد الخالدي، إلا أنه مشروع أولي كان من المفترض أن يجتذب الباحثين إلى المزيد من الدراسات التوثيقية والتفصيلية. فما عدا ما قامت به جامعة بيرزيت من نشر (حوالي 25 قرية) كدراسات تفصيلية، وما قام به بعض الباحثين المنفردين لتوثيق عدد آخر من القرى، بقيت غالبية القرى الفلسطينية المدمرة بتوثيق أولي مهم، لكنه غير كاف.