البلدة

"أم طلال متعلّقة بشجرة التين أكثر منّي. لا بد أنّ قطع الشجرة كان ضروريًا في لحظة لا أعرفها لأنّني هناك، ولأنّها هنا. هكذا بكلّ بساطة. ربما لو كنت أنا الذي استمرّ في العيش هنا لهدمت أو بنيت وزرعت أو قطعت أشجارًا بيديّ. من يدري؟ عاشوا زمنهم هنا وعشت زمني هناك. هل يمكن رتق الزمنين؟"

مريد البرغوثي، رأيت رام الله، 2011، 102

 

 

تقع دير غسّانة نحو 25 كلم إلى الشمال الغربيّ من رام الله، وتشكّل مع قرية بيت ريما المجاورة الحدود البلديّة لبني زيد الغربيّة، بتعداد سكّاني يناهز 8000 نسمة. يشتقّ اسم القرية من اسم قبيلة الغساسنة العربيّة التي سكنت فلسطين خلال وما قبل الحقبة البيزنطيّة. وتشتهر القرية بالعديد من المعالم الأثريّة والمزارات والمقامات التاريخيّة، من مثل مقام الخوّاص.

 

تمتاز دير غسّانة، كونها إحدى قرى الكراسي الست والعشرين أثناء الحقبة العثمانيّة في فلسطين، بالعديد من القصور الرائعة، وعلى وجه الخصوص قصور عائلة البرغوثي، وهم شيوخ منطقة بني زيد.

 

كما أنّ دير غسّانة هي مسقط رأس عدد من القيادات السياسيّة والكتّاب والناشطين المعروفين في فلسطين. وتتمتّع القرية بمجتمع مدنيّ حيويّ وفيها عدد من المؤسّسات بما في ذلك روضة أطفال وعيادة وجمعية نسويّة، وجميعها في البلدة القديمة في القرية.

 

رغم التغيّر الجوهريّ لميزان الثروة والقوّة بعد القرن التاسع عشر، وتراجع قوى الريف غير المركزيّة لصالح حكم عثمانيّ أكثر مركزيّة، إلّا أنّه ما زال بالإمكان ملاحظة الفروقات الطبقيّة والتراتبيّة الاجتماعيّة في التعريفات الحيّزيّة القائمة وفي العلاقات بين السكّان وبيئتهم المبنية. لقد غادرت معظم العائلات من حمولة البرغوثي القرية منذ سنوات وانتقلت إلى المراكز الحضريّة في فلسطين وخارجها، في حين أنّ غيرها من الحمائل بقيت في القريّة، بل وطوّرت، على مرّ الزمان، علاقة أقوى مع القرية. تتمثّل هذه العلاقة في تشييد البيوت الحديثة، وتكييف المباني القديمة لاستخدامات جديدة، وإنشاء ديوان عائلة جديد لاستضافة النشاطات والفعاليّات.


 

المركز التاريخي

أدرجت البلدة القديمة في دير غسّانة ضمن الخمسين قرية التي اختارها رواق كقرى متميّزة معماريًّا وتاريخيًّا لتكامل نسيجها التاريخي، والمحافظة علي مبانيها التاريخية بشكل جيّد. وما تزال الأحياء القديمة واضحة المعالم وتحمل الأسماء التاريخيّة والتقسيمات القديمة. وفقًا ل"مخطط الحفاظ على الموروث الثقافي والطبيعي في دير غسانة" (2005)، يوجد في البلدة القديمة 279 مبنى تاريخيًّا، نصفها مهجور. وقد تمّ تشييد إضافات جديدة ومبانٍ جديدة إلى جوار االتاريخية لتلبية الخدمات التي تحتاجها العائلات المقيمة في البلدة القديمة وحولها.

 

أثناء الحكم العثمانيّ، كانت البلدة القديمة في دير غسّانة مقسّمة إلى ثلاث مناطق، كلّ منطقة مخصّصة لعائلات وطبقة اجتماعيّة مختلفة. شيّدت عائلة البرغوثي، التي سكنت أعلى التلّ في الحارة الفوقا، قصورًا فخمة لكن منعزلة، ما عكس مكانتهم وقوّتهم السياسيّة كجباة ضرائب وشيوخ منطقة بني زيد. أمّا عائلة الشعيبي، التي كانت تقيم في أسفل التلّ نحو الشرق، فقد كانت بيوتها تقليديّة كبيوت عائلات الفلّاحين الممتدّة التقليديّة. أمّا سواهما من العائلات، مثل عائلة الرابي، فقد بنوا بيوتهم إلى الجنوب الغربي من مجمّع البراغثة، وكانت بيوتهم الفلّاحية الممتدة والمنتشرة بين الحقول والبساتين على علاقة قوية مع المحيط والطبيعة والجيران (وتعرف المنطقة بالحارة التحتا).

 

في رسالة الدكتوراه غير المنشورة ’المكان، النسب، والنوع الاجتماعيّ: البعد الاجتماعيّ لعمارة الفلّاحين في فلسطين‘ (1982)، تشرح سعاد العامريّ كيف أنّ "حارات البلدة القديمة في دير غسّانة تجمّعت حول ساحة القرية الرئيسة والتي تقع وسط القرية تمامًا. شملت الساحة ديوان القرية المشترك والجامع، وبالتالي لم تكن تجمع حولها فقط الأجزاء المختلفة للقرية، وإنّما تضفي عليها أيضًا معاني اجتماعيّة ورمزيّة".

 

لقد استعملت البلدة القديمة، خاصّة الساحة وقصر صالح البرغوثي، كمواقع تصوير لفيلم عرس الجليل (1986)، كما وتورد العديد من مسارات السياحة البديلة دير غسّانة كوجهة للسيّاح، سواء المحلّيّين أو الأجانب. في وقت لاحق غدت الساحة مسرحًا للفعاليّات الاجتماعيّة والثقافيّة مثل الحفلات الموسيقيّة التي تقيمها جمعيّة الكمنجاتيّ، وأيضًا بينالي رواق الأوّل. وهي بالطبع الممرّ المؤدّي إلى المسجد الحديث والمقبرة، مما يكسب الساحة أهمية خاصة.


 

إعادة الإحياء

من المبنى الواحد إلى مشهديّة القريّة



يبيّن مشروع إعادة تأهيل دير غسّانة أنّ الغنى التاريخيّ والغنى المعماريّ ليسا المكوّنين الوحيدين لإحياء الموروث الثقافيّ والمعماري للقرية. على العكس من ذلك، فالمجتمع المدنيّ الفعّال والمؤسّسات الفاعلة، والسكّان ومرتادي البلدة القديمة، كما الإرادة السياسيّة – المتمثّلة في المجلس البلديّ – هم جميعًا الملّاك الفعليّين لموروث القرية وهم حماته والقادرون على وضع قريتهم على ’الخارطة الثقافيّة‘.

فالبلدة القديمة في دير غسّانة تتمتّع بالحيويّة وهي مركزيّة في حياة المجتمع المحلّيّ بفضل عدد من الجمعيّات المدنيّة المحلّيّة. تقوم الجمعيّة النسويّة المحلّيّة بتحضير الوجبات وبيعها لمدارس القرية؛ وتستقبل العيادة يوميًّا عددًا كبيرًا من المرضى؛ ويرتاد روضة الأطفال أطفال أكثر من قدرتها الاستيعابية؛ وتقيم جمعيّة الكمنجاتي حصص موسيقى مرّتين في الأسبوع؛ ويصلّي الناس في الجامع الجديد خمس مرّات في اليوم. يمرّ جميع هؤلاء عبر ساحة البلدة القديمة. كما يُستفاد من الساحة في الأعراس والفعاليّات الثقافيّة والجنازات.

لكن في التقييم العامّ، شكّلت دير غسّانة تحديًّا لرواق ولمحاولاته إعادة إحياء البلدات القديمة عبر الريف الفلسطينيّ. فالبلدة القديمة الأكثر تكاملا وسط الضفّة الغربيّة لم تكن تستقطب بعد الاهتمام اللائق – وكأنّها حديقة خاصّة مخفيّة. تمّ تنظيم العديد من الرحلات إلى القرية، سواء للجمهور المحلّيّ أو الأجنبيّ. وبالرغم من تقدير الزوّار للجوانب المعماريّة، إلّا أنّ ساحات القرية لم تكنّ مرحّبة بالزوّار أو المقيمين؛ لعدم وجود أمكان مظللة ومحدوديّة أماكن الجلوس وغياب نظام لافتات للتعريف بمعالم القرية وتاريخها الغنيّ. كان الفضاء العامّ، قبل ترميم الساحة الرئيسة، مقفرًا وكانت القصور المحيطة موصدة. لم تتوافر المعلومات حول القرية للزوّار، ولم يفكّر أحد بالتجوّل عبر الأزقّة التي تربط بين الأحياء.

مضى رواق قدماً مع الجمعيّات المحلّيّة وأهالي القرية، لجذب المزيد من الاهتمام لهذا الكنز المعماري والثقافي للقرية وللكشف عن تاريخه،  ولتحديد الرؤية التالية والتي تساهم في إعادة استخدام هذه الفضاءات التاريخية المهجورة:

- خلق ترابطات بصرية وفاعلة بين الأحياء المختلفة؛
- توفير فضاءات عامة لتمضية الوقت والتفاعل الاجتماعي في البلدة القديمة؛
- تعزيز بُنية وجاهزية الفضاءات العامة ووضوحها وسهولة الوصول إليها؛ و
- توفير بيئة آمنة وجا ذبة للأعمال المحلّيّة والسكن.

لقد قدّمت تدخّلات رواق في البلدة القديمة في دير غسّانة عناصر جديدة (مثل البلاط والمقاعد والمعرشيّات)، تحترم مقياس الإنسان والبيئة وباعتماد نهج معاصر ومبادئ العمارة الخضراء. واستخُدم لهذا الغرض التصميم المعماريّ كوسيلة لإعادة التفكير في الفضاء والمواد المحلّيّة، وأيضًا كوسيلة لتلبية الاحتياجات المجتمعيّة دون المساس بالممارسات الاجتماعيّة والتقاليد والترتيبات الأصيلة. وفيما نحن، إلى اليوم، نواصل التقدّم في دير غسّانة من أجل سكانها وزوارها، يستمرّ عملنا هناك، ويواصل المشروع تقدّمه.

خرائط ورسومات