خطة وطنية شاملة


إن الحاجة ملحة لتطوير خطة شاملة لحماية وتطوير التراث الثقافي في فلسطين. إن الثراء والتنوع الثقافي يلقي على عاتق المجتمع الفلسطيني بكل مؤسساته عبئاً ثقيلاً باتجاه حماية هذا التراث وتطويره، ليس على اعتبار بعديه الثقافي والحضاري وانسجامهما مع تاريخ الإنسان الفلسطيني، أو على اعتبار أنه يختزل تجاربه التاريخية وعمق وجوده في هذه البلاد فقط، بل على اعتبار أنه يشكل مورداً اقتصادياً عظيماً إذا أحسن استخدامه وتطويره. وهنا يجب أن لا ننسى أهمية الترابط الموجود بين التراث الثقافي والبيئة الطبيعية، فالاستثمار في التراث الثقافي لا يغنينا عن الحفاظ على البيئة الطبيعية، التي عانت خلال السنوات الماضية من إهمال وتدمير، بعضه مبرر وغالبيته لا داعيَ له.

ولن يكون من الممكن حماية التراث الثقافي في فلسطين إلا بتحقيق جملة من الشروط:

  1. أن تكتشف دولة فلسطين، كمؤسسة رسمية، هذا البعد وتبادر إلى وضع حماية التراث الثقافي على سلم الأولويات الوطنية للتنمية. كما يجب أن يكون هنالك التزام موحد حيال بناء سياسة وطنية متعلقة بحماية التراث الثقافي تعمل على توحيد الجهود وتقليل التشتت والتضارب بالصلاحيات الموجودة بين الجهات المختلفة ذات العلاقة بالتراث. إنه لمن الضروري الانتقال من مرحلة التوثيق والدراسة إلى مرحلة بناء خطة وطنية شاملة، وذلك كجزء لا يتجزأ من خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في فلسطين.

  2. ضرورة وجود مرجعية دستورية لحماية التراث الثقافي الفلسطيني وتطويره، هذا بالإضافة إلى ضرورة أن يقوم المجلس التشريعي الفلسطيني بالمصادقة على قانون حماية التراث الثقافي الذي جرى إعداده في الآونة الأخيرة ضمن المعايير الدولية، ويعتبر القانون المقترح منهجاً شمولياً للتعامل مع التراث الثقافي، ويمكن من خلاله توسيع دائرة الحماية والإدارة، كما يساهم في وضع التراث بالمكانة التي يستحقها والتي نريد.

  3. تحضير خطط حماية وتطوير للمناطق التاريخية، وذلك بالتنسيق مع الوزارات والجهات المعنية، حيث أنه يجب، عند تخطيط المدن، أن تؤخذ بعين الاعتبار حماية التراث الثقافي والطبيعي الموجود ضمن منطقة التخطيط، كما يجب إعداد مخططات حماية وتطوير لمناطق التراث.

  4. تطوير المشاركة الشعبية الواعية بالمحافظة على التراث الثقافي، لأن الدولة مهما أوتيت من قوة ووعي لا تستطيع حماية هذا الكم الهائل من التراث الثقافي المنتشر في طول البلاد وعرضها، إذا لم يعِ المواطن أن مصلحته الخاصة والوطنية تكمن في حفظ هذا التراث وتطويره كمصدر من مصادر رزقه، وكجزء من هويته الوطنية. كما يمكن لمؤسسات المجتمع الأهلية والقطاع الخاص لعب دور الشريك الفعال في هذا المضمار. إن العمل على تنمية علاقة المجتمع بتراثه لا تعتبر، وبخاصة في الظروف الراهنة، مهمة سهلة، لكنها المحك الذي سيفشل أو ينجح أية عملية تنمية للتراث الثقافي.

  5. تطوير المشاركة المؤسساتية الرسمية على الصعيدين الوطني والمحلي. هناك وزارات وهيئات عدة تستطيع (بل من الضروري) المساهمة، كل حسب طاقتها، في هذه العملية الشاقة، منها: وزارة الثقافة، ووزارة السياحة والآثار (إلى حين تشكيل الجسم الجديد الذي يخول مهمة حماية التراث الثقافي ككل وليس الآثار وحسب)، ووزارة الحكم المحلي بصفتها الوزارة المخولة بمتابعة أعمال البلديات والمجالس القروية والمخططات الهيكلية، ووزارة الزراعة، وهيئة حماية البيئة ... الخ. فوزارة السياحة والآثار، أو الهيئة الجديدة المقترحة للتراث الثقافي، عليها تولي إدارة هذا القطاع ووضع المعايير المختلفة والضرورية للحماية والتنمية، كما من الواجب عليها القيام بالتنسيق وخلق شبكة علاقات وعمل مشترك بين كل المعنيين والمهتمين والشركاء المحتملين. أما وزارة الحكم المحلي، كون الكم الأكبر من التراث الثقافي يقع داخل الحدود البلدية والقروية، فتشكل شريكاً لا غنى عنه في تطوير المخططات الهيكلية، بحيث تصبح هذه المخططات خادمة له، ويصبح التراث الثقافي محفزاً على التخطيط البناء، ومستثمراً في موارد الموقع لا مدمراً له. والبلديات والمجالس القروية شريك في التخطيط والحماية والاستثمار، ولا بد من تطوير دوائر في كل بلدية كبيرة نسبياً مهمتها الحفاظ على التراث الثقافي ومراقبة الأعمال الجارية فيه أو حوله، وذلك بالتنسيق مع الهيئة المسؤولة.

  6. تطوير شراكة مع مؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة بحماية التراث. وتبقى الشراكة مع المجتمع هي الأساس، فلا خير بتراث لا يقدره أصحابه. ويملك المجتمع الفلسطيني مجموعة من المؤسسات الأهلية التي وضعت التراث الثقافي نصب أعينها، وراكمت خبرة جيدة في المجال، وهي مؤهلة بشكل عام لتكون شريكاً جيداً، وتعتبر دعامة أساسية لحماية التراث الثقافي، منها: لجنة إعمار البلدة القديمة في الخليل، التي استطاعت ترميم وحماية جزء مهم من البلدة القديمة، وأعمال الحماية التي نتجت عن مشروع بيت لحم 2000، والتي تمخضت أيضاً عن إنشاء مركز حفظ التراث في بيت لحم الذي يقوم بأعمال ترميم وصيانة لجزء مهم من تراثنا المعماري، بالإضافة إلى نشاطاته الحثيثة في تطوير الوعي بالتراث الثقافي. وفي مدينة القدس القديمة، تقوم كل من وحدة إحياء البلدة القديمة في مؤسسة التعاون ولجنة الرفاه الاجتماعي والأوقاف الإسلامية والوقف الكنسي، بتنفيذ برامج على درجة عالية من الأهمية في حماية البلدة القديمة، كما تقوم وحدة البلدة القديمة في بلدية نابلس بعمل شاق لحماية البلدة القديمة التي تتعرض إلى اجتياحات متكررة من قبل جرافات الاحتلال ودباباته. بالإضافة إلى مساهمة المكاتب الخاصة، كل هؤلاء يساهمون -بلا شك- في حماية التراث المعماري من هلاك أكيد، إن ترك الوضع على ما هو عليه.

  7. ويبقى نطاق عمل رواق ـ مركز المعمار الشعبي على المستوى الوطني دون تحديد مركز عمله في منطقة محددة، وحيداً بين المؤسسات، فبالإضافة إلى نشاطاته في بعض المدن، يركز أعمال الحماية والترميم في الريف الفلسطيني الزاخر بالعمائر التقليدية، هذا الريف المعرض أكثر من غيره لفقدان هويته. كما يقوم المركز بالكثير من النشاطات التي لها علاقة بنشر الوعي والتدريب، وتطوير مكتبة معمارية، ودعم للمؤسسات ذات العلاقة بالتراث الثقافي. إن كل ما يدور من أعمال توثيق وترميم وحماية، على الرغم من أهميته، فإنه ليس بحجم التحدي بعد. كما تخلو بعض المناطق الجغرافية من المؤسسات الأهلية المختصة بحماية التراث، لذلك لا بد من تشجيع نشوء المزيد منها ومراعاة التوزيع الجغرافي والتنوع في إطار التخصص.

وللجامعات والمعاهد ومراكز التدريب دور حيوي أيضاً، حيث ما زالت الكفاءات المتخصصة في مجالات التراث الثقافي محدودة وغير كافية ولا تتلاءم وحجم المهمة والتحدي. ويمكن التفكير ملياً في تطوير شبكة بين المعاهد المختلفة المرتبطة بالتراث الثقافي لخلق تكاملية في التعليم والتدريب وسد احتياجات القطاع.

  1. تطوير خطة لتوجيه القطاع الخاص والقائمين على التنمية للاستثمار المضبوط في التراث الثقافي ضمن معايير محددة وبطرق لا تضر بذلك التراث. إننا نجانب الصواب إذا اعتقدنا بأننا قادرون من خلال الوزارات والهيئات الرسمية والمؤسسات الأهلية والمكاتب الهندسية الخاصة على التصدي لهذه المهمة لوحدنا، فمن الضروري دمج القطاع الخاص في هذه العملية، وذلك عبر توفير المحفزات والقروض. ويمكن التفكير بإنشاء صندوق متخصص بالتراث الثقافي، هذا إذا عجزنا عن إنشاء بنك متخصص بالتراث الثقافي والسياحة.

إن أية عملية تنموية لا يمكن، وظروفنا هذه، إلا أن تعتمد على تنمية الموروث الثقافي، وبخاصة أننا يجب ألا نستمر بالتفكير أن التراث الثقافي هو مستهلك للأموال ولرأس المال، بل يجب مغادرة هذا النوع من التفكير إلى اعتبار الموروث الثقافي مصدراً مهماً من مصادر الاستثمار والدخل الوطني، ومولداً للربح وخالقاً لفرص العمل ولصناعة كاملة تفتح آفاقاً للتنمية.

  1. تطوير الشراكة الفلسطينية العالمية، وذلك بتطوير علاقات التعاون والشراكة مع المؤسسات العالمية التي تعنى بالتراث الثقافي مثل اليونسكو، والأيكروم، والايكموس ... الخ، بالإضافة إلى المؤسسات العلمية والمتاحف التي تهتم بالتراث الفلسطيني، وتكون معنية بتطويره.

ضرورة تنمية الموارد البشرية ليصبح لدينا كادر مهني متخصص في قضايا الحماية والترميم والإدارة، حيث نعاني من نقص مريع في عدد الكفاءات ومستوى تدريبها، للتصدي لهذا التحدي الكبير. وهنا تبرز أهمية الشراكة العالمية في هذا المضمار.