سجل رواق للمباني التاريخية
ولا نستطيع أبداً أن نخوض في أية خطة وطنية قبل أن نقوم بتسجيل الممتلكات الثقافية، وتجميع قاعدة بيانات حولها تكون قادرة في المراحل الأولى على تزويدنا بالمعلومات الأولية عن المواقع في فلسطين. وكان لا بد من تحديد الحيز الجغرافي للمشروع. ولأسباب ليست فقط سياسية وليست حضارية، بل لوجستية وأخرى لها علاقة بربط السجل بالخطط التنموية لفلسطين، قررنا أن يقتصر عملنا على المناطق المحتلة العام 1967، مع إدراكنا أنه من ناحية حضارية وتاريخية يجب أن يشمل السجل كل فلسطين ضمن حدودها الانتدابية، على اعتبار أن مادة السجل تشمل الممتلكات المعمارية التي سبق بناؤها النكبة (1948). ولن تكتمل الصورة أبداً إلا بتضمين العمارة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة العام 1948 ضمن هذا السجل، على أمل أن نتمكن مستقبلاً من استكمال المشروع، إذا توفرت المناخات المناسبة لذلك.
خلال عقد من الزمن، وعبر عمل دؤوب، استطعنا الانتهاء من الجزء الأكبر من عملية تسجيل لكل مبنى تاريخي يعود إلى ما قبل العام 1945 تقريباً (أقدم من 50 عاماً). هذا الإنجاز يعتبر على درجة عالية من الأهمية لما يحتويه من فوائد لا حصر لها. فبالإضافة إلى معرفتنا الآن بما نملك من مبانٍ تاريخية، وما هي أحوال هذه المباني وأوصافها وموقعها الدقيق على الخارطة، أي بالإضافة إلى الفوائد المباشرة للسجل التي يمكن الإطلاع عليها من خلال هذا العمل، هناك الكثير من الفوائد غير المباشرة نذكر منها، أنه على مدار السنوات العشر، تم تدريب المئات من طلبة العمارة والتاريخ والآثار في الجامعات الفلسطينية على التعامل مع المباني التاريخية، ما ترك بصماته على وعيهم وقدراتهم على فهم هذا الموروث الثقافي. كما جرى الحديث، تقريباً، مع كل المالكين أو المستعملين للعقارات القديمة، وبنيت شراكات مع المجالس البلدية والقروية والكثير من المؤسسات العامة والأهلية. ويمكننا القول إن العمل على السجل قد ساهم بشكل فعال في تطوير الوعي العام بالتراث الثقافي، وفتح النقاش المجتمعي حول أهميته. صحيح أنه لم يستطع وقف التدهور الكامل، لكنه ساهم في حماية بعض المباني والمراكز التاريخية، بالإضافة إلى استثماره في الإنسان.
لكن من المفيد أن نذكر أن السجل قد مر بمخاض صعب على اعتبار أنه ولادة جديدة لم تسبق لنا معرفة بقوانينه. فمررنا بتجارب الآخرين، سواء من المنطقة المحيطة أم من مناطق أكثر بعداً. وعلى الرغم من كل البحوث التي قمنا بها لتقرير ما نريد، فإن ذلك لم يحمنا من الوقوع في الأخطاء والمحاولة من جديد. لقد مر على تجاربنا الأولى لتشكيل السجل عقد من الزمن لم يخلُ من تقلبات الوضع السياسي في فلسطين، كما داهمتنا التطورات التكنولوجية والبرمجيات الحديثة التي تسهل العمل من جهة، لكنها كانت تجبرنا على تعديل ما أنجز في الماضي من جهة أخرى. وفي النهاية، توصلنا إلى شكل يسهل علينا استخراج أية معلومة وبسرعة فائقة عن أي مبنى جرى تسجيله.
بما أنه قد مضى عشرة أعوام على البدء بالسجل ولم يتم تحديث السجل، فإننا لا نعرف على وجه اليقين كم بقي من المباني التي قمنا بتسجيلها، فـ"الهبة" العمرانية التي اجتاحت الأراضي الفلسطينية، وجرافاتنا وجرافات الاحتلال لم تبقِ في بعض الأحيان إلا سجل رواق كشاهد على ما كان.